تحدي.. أحد عناوين فقرات الكتيب الذي أعددته للطباعة بعد التنقيح والمراجعة ، فحال دون ذلك انشغالي بالامتحانات..
تعرفت على بستانكم المثمر وروضتكم الغناء قريبا مصادفة – أو قل قدرا ً- وأنا اتصفح الموقع العربي لاصابات النخاع الشوكي لاجد اجابة لبعض تساؤلات، وجدتها في موقع التحدي الصديق تحت بند ( مواقع صديقة )، فأدركت قدر الصداقة حتى في المواقع الالكترونية ..
لا أطيل.. أترككم مع جزء من قصتي في التحدي كعربون صداقة واستئذان على استحياء لتقبلوني في رحابكم أيها الكبار ذوي القلب الواحد ..
تحدي
المأدبة التي حظي بها المولود يوم سابعه ، اللحظات السعيدة التي أقضيها في مداعبته من على بعد، لم ترويني فأستجمع قواي لأزيد قرباً، دافعاً جسدي لأنبطح عليه وجهاً لوجه معتمداً على ما تبقى من قوة ذراعاي، لأجترفه بكفاي، وأعتنقه وأشم ريحه لترتوي روحي ، حتى إذا ما تعبت ذراعاي وضعته ..
أصبح لدي طفلين ضعيفين بحاجة إلى أب قوي يرعاهما ، وامرأة بحاجة لزوج يكون أداة قوة إضافية لها لا أداة ضعف يزيدها ضعفاً ؛ فبدأت أفكر وأعيد النظر ألف مرة .. كيف سأقدم نفسي لهم وللمجتمع ؟! هل سأتواكل وأقول ربي الذي أصابني ولا مخرج لي إلا الاستسلام لقدره ؟ أم سأحارب قدر الله بقدر الله ، فكانت الثانيه ..
عقدت العزم وتوكلت على الله حق التوكل بالالتجاء إليه والعمل بالأسباب ؛ ساعدني في ذلك بعض أصدقائي الجادين وأخص الأخ عبد الباسط قاسم الذي أعطاني برامج في التنمية البشرية للدكتور صلاح الراشد ، مثل برنامج التفكير الإيجابي ، وكيف تصبح متفائلا ، وكن مطمئنا وغيرها ، وكذا كتب للدكتور ابراهيم الفقي ..وشرَط عليّ التطبيق العملي قائلاً : إن هذا هو علاجك الحقيقي ...
بدأت الاستماع مع الكتابة بشغف بالغ ، وقرأت الكتب بإقبال ونهم .. استهواني أن تلك البرامج تجمع بين المفيد مما جاء في العلوم المدنية الحديثة وتؤصلها من الكتاب والسنة كما قال جل وعلا (ما فرطنا في الكتاب من شئ ) ؛ لم يتبقى إلا شرط التطبيق العملي ..
شرعت بوضع الأهداف بدقة ، روحية - صحية - شخصية - عائلية – اجتماعية – مادية واقتصادية ، تصورت كيف سأكون في حال تحقيقها بعد خمس أو عشر سنوات، فزادني ذلك عزيمةً وإصراراً .. ولعل أهم الأهداف ثلاثة لكل هدف ثلاثة أسباب:
أولاً: حفظ القرآن الكريم:
أ- إخلاصا لله لأكون من أهله وخاصته .
ب- استشفاء للروح والجسم .
ج- إحسانا لوالداي كما أحسنوا إلي .
ثانياً: ممارسة العلاج التأهيلي على أيدي متخصصين:
أ - عملاً بالأسباب فما جعل الله داءً إلا جعل له دواء .
ب- تحقيقا للاستقلالية قدر المستطاع .
ج-المحافظة على أجهزة الجسم الداخلية ومستوى النشاط .
ثالثاً: مواصلة الدراسة العليا:
أ- تحدياً للإعاقة وتحقيق القدوة .
ب- المؤهل يساعد على مواجهة ظروف الحياة مستقبلا .
ج – الانشغال بما يفيد وتنمية الشخصية لأداء الرسالة من وجودي.
ثم هناك أهدافاً تفصيليةً، مسقطة على خمس سنوات، ثم السنة، ثم الربع سنة..
بعد التخطيط الدقيق المفصل ، انقشعت سحابة الحيرة واستحال الخوف من المستقبل إلى أمن وسكينة، لمجرد التخطيط ، وكلما شرعت في التنفيذ كلما تأكدت ثقتي وزاد يقيني بالوصول، بل بالتجاوز بتوفيق الله ..
اندفعت بكل إرادتي وإمكانياتي، فبدأت بحفظ القرءان الكريم، مستمداً منه قوتي، مستجدياً مباركة الخالق عز وجل ؛ تجاوزت الزهراوين ( البقرة وآل عمرن) إلى الجزء السابع ، وسعيت لتحقيق الهدف الرئيسي الثاني، باذلاً الأسباب لممارسة العلاج التأهيلي على أيدي متخصصين؛ لم أجدهم في اليمن فاتجهت صوب القاهرة، حيث وجدتها المكان الأنسب بعد دراسة لمدى قدرتي على ذلك مادياً ومعنوياً..
ومع شحة الإمكانيات وطموح الهدف ، كان التحدي أصعب .. العلاج التأهيلي يتطلب نفَس طويل ونفقات طائلة ، لطول مدته كما هو معروف ، لكن الدافع والرغبة كانت أقوى .. استودعنا ولدانا الله على صغر سنهما ولين عودهما – أحدهم في الخامسة والآخر لم يبلغ الفطام – عند والداي الكبيرين فالوضع لا يحتمل مرافق آخر أو أولاد ..
استغنيت عن أي مرافق ، عدا زوجتي ، التي أصبحت يدي التي أبطش بها وعيني التي أبصر بها ورجلي التي أمشي بها ؛ وبهذا كان التحدي ، حيث سخر منا أكثر من حولنا ، ورثى لنا البعض الآخر ؛ إذ كيف ستهاجر امرأة ضعيفة ، قليلة الخبرة والتعليم ، بمفردها إلى ما بعد البحار ، مع زوج مشلول يحتاج إلى حماية فضلاً عن أن يحميها ..
كثرة التساؤلات من الأهل والجيران لم تثننا عما عزمنا عليه ، قالوا أن البرامج النظرية وكلام الكتب أثر علي فحاولوا مع زوجتي:
- هل أنتم جادين فيما تقولون لو كان صادق خيالي ومغامر فلا تٍكوني مثله؛ أنت الأكثر خسارة بفراق أطفالك لمغامرة مجهولة في أم الدنيا .. يجب أن تعيدوا النظر ؟
- الله معنا ولن يضيعنا .
قرّرنا خوض التجربة متوكلين على الله آخذين بالأسباب المتاحة .. وبين شد وجذب من أفراد العائلة بين مؤيد ومعارض جاء موعد الحجز لفظ النزاع .. وأتى يوم السفر ..
أحجم أخي الأكبر عن توديعنا ، لا أدري شفقةً على ما يمكن أن نواجه أم غضباً لما سيصيبه من كلام الناس أو لعلّهما معاً..
يوم سفرنا هذه المرة، كان يوما مشهوداً، شبيهاً بذلك اليوم بعد الحادث .. أظهر الجميع رباطة جأش لعدم تثبيطنا، ما لبثت أن تلاشت في صالة المطار حيث أجهش الجميع بالبكاء، خاصة أمي وطفلي محمد وآية ابنة أخي التي كانت تراني أباً وصديقاً وعماً ..
دمعت عيناي وعينا زوجتي أمام ذلك المشهد ؛ كاد الضعف يدب إلى أعماقنا ونحن نحتضن ولدينا في آخر وداع لا ندري ما بعده ..
فوجئت بدفعةٍ قوية تحرك عجلات الكرسي المثقلة لتسرع بنا إلى صالة المغادرة النهائية، لتكسر ترددي وضعفي، وتبدلني عزيمةً وإصراراً وقوةً، استمديتها من يدي رفيقتي الدافعة للكرسي، وروحها العاشقة للتحدي ومكابدة الصعاب ..
انطلقنا وعينا والدتي ترمقنا وتباركنا بالدعوات، التي رأيناها متحققة أمامنا منذ صعودنا سلم الطائرة وحتى عودتنا ( الله يسخرلكم ويحميكم ويردكم سالمين غانمين ) ..
بعد إقلاع الطائرة واستقرار سرعتها على الارتفاع المقرر خالجنا شعور غريب متبادل ونحن نتبادل النظرات مسرورين ببعضنا:
- هل أنت نادمة ؟
- كلا بل مسرورة جدا لأنك أعطيتني الفرصة لإثبات الذات وخوض التجربة.
- لن تضعفي مستقبلا !
- واثقة أني سأزداد قوة ، نرتب وضعنا ثم نستقدم الأولاد وبذا نستقر .
لا تردد ولا تلكؤ .. ثبات موقفها دعّم شعوري بالسعادة ، كأننا ذاهبين لقضاء شهر العسل حقيقة لا مجازا ؛ نستمتع برحلتنا الجوية ، وما فيها من تشويق برؤية تشكيلات السحاب ، وقدرة الله في بسط الأرض ورفع السماء ،وتسخير كل شئ في الكون، بنسب تتناسب لتناسب خليفته المكرم ..
شهر عسل لعروسين مؤمنين، ارتفعا بإيمانهما عن السنن البشرية والموازين الوضعية، إلى سنن الله الحقيقية التي تحوّل المحن إلى منح، والمصائب إلى مناقب إضافية، تخلق روح الإبداع وتُنْبئ بنشوة نجاحٍ مرتقب ..
إحساس تملكنا ونحن نبتعد عن جاذبية الأرض بمفاسدها ، ونقترب من السماء بقدسيتها .. تمنينا استمرار ذلك القدر من السعادة والإيمان واليقين ، بعد أن تجذبنا الأرض إليها ثانية عند الهبوط..
وهاكم الأرض الممتلئة بالمتناقضات، تجذبنا للخوض في المعمعه ..
وصلنا إلى مطار القاهرة مساءً ، أنزلونا بالرافعة بعد نزول الركاب وأنجزنا تختيم الجوازات، ثم خطونا بكل ثقة نحو بوابة الخروج حيث المستقبلين ..
فور خروجنا بادر إلينا ببشاشة ، شخص صيني الجنسية ؛ علمنا أنه من طلبة الأزهر –أنتم من طرف الأخ عبد السلام ؟ أجبنا بالإيجاب .. اصطحبنا إلى الشقة التي أعدها لنا بجوار مركز التأهيل ، فشكرناه وأهديناه شيئاً من البن اليمني الفاخر.
بعد ذهابه ؛ تفحصنا الشقة ، فوجدناها غير صالحة للسكن .. سرير مكسور، تلفزيون قديم لا يعمل، غرفة إعداد الطعام مليئة بأنواع الصراصير، وكذلك الثلاجة ، والأهم من ذلك كله الرطوبة الشديدة على الجدران ، حتى أنها لم تستطيع الصمود فانهال الأسمنت من عليها ..فكيف بنا ، كيف سنقاوم شدة البرد مع الرطوبة ؟! ولولا اصطحابنا اللحاف الثقيل لتجمدنا من البرد لعدم وجود أي بطانية ؛ لكن سرورنا بالاستقرار أول ليلة، حول تلك الشقة إلى قصر ولو مؤقتا ..
آه ما أجمل نسمات الصباح في الوقت المتميز من الفجر إلى الشروق وإن كان شتاءً ؛ استنشقت رائحة النيل من شرفة الغرفة فأدركت أننا بالقرب منه..
بدأنا بالعلاج ونفذنا المخطط بفتح حساب في البنك وعمل ميزانية للمعيشة والسكن ، شراء خريطة لمدينة القاهرة لنعرف موقعنا في أي مكان نذهب دون الحاجة إلى السؤال حتى لا نُستغل ، مع البحث عن أي جمعية يمكن أن تدعمنا للاستمرارل في العلاج ..
كانت المعضلة أمامنا غلاء السكن ، فمصر بلد سياحي والشقق المفروشة مشروع استثماري ناجح .. أعيانا البحث عن سكن يتناسب مع المشروع الذي قدمنا لأجله ، تكلفة السكن الداخلي في مركز التأهيل باهضة خاصة لغير المصريين ، وحتى الجمعيات في مصر لاتدعم غير المصريين ، لجأت إلى إحدى شركات المجموعة التي كنت أعمل فيها في القاهرة فحصلت على مبلغ استغليته مباشرة بعمل عقد مفتوح بإيجار بسيط لشقة خلو في حي شعبي متوسط قريب من مركز التأهيل ..
-أربعة أشهر من أجمل أيام عمرنا على كورنيش النيل نتشبه بالعاشقين-
تبدد الخوف والألم وأيقنا أنه باستطاعتنا العيش كما نريد وكما أراد الله لنا .. يمكن أن أمارس حياتي بشكل طبيعي .. صحيح أن القاهرة ليست في مستوى الدول المتقدمه لكننا نراها متقدمة كثيراً عن بلدنا في المجال الصحي، والتعليمي، والبنية التحتية، وكل شئ ، وإن كنا نتقارب في مستوى المعيشة ومتوسط دخل الفرد ..
كانت الشقة مصدر الاستقرار لنا في القاهرة، فيمكننا الان السفر والعودة في أي وقت مع ولدينا .. أحسنا الظن والأمل بالله فلم يخيب أملنا، وتحقق الهدف الثاني بممارسة العلاج التأهيلي على أيدي متخصصين في أشهر مركز على مستوى الشرق الأوسط بتكلفة مقدورة خاصة بعد أن حلت مشكلة السكن..
توّج استقرارنا مجئ الدكتورة الفاضلة وفاء العاقل ذات مساء تعرض علينا العلاج على نفقة جهة خيرية تشرف عليها ، حين علمت خبرنا من احد المعارف ، واستمرت بدعمنا لمدة سنتين ..
الوداع
لم يمر على انتقالنا للبيت الجديد سوى خمسة عشر يوما ؛ جاءنا اتصال أن الوالد في مرض الموت يطلب رؤيتنا ، عدنا على أول طائرة ، فعلاً من رآه يجزم أنه لن يعيش.. أطباء اليمن شخصوا حالته بالسرطان، وتبين خطأ التشخيص فيما بعد..
أما أمي الحبيبة كانت في كامل صحتها، مع شحوب وحزن ظهر على وجهها لقرب فراقها لرفيق عمرها .. فجأةً ودون أي مقدمات صرخت تشكو آلام في جوفها ، وما هي إلا ساعات حتى انتقلت إلى رحمة الله بجلطة مفاجئة في القلب..
سبحان الله والدي تماثل للشفاء بل شُفي تماماً بعد شهر ونيف ، وأمي هي التي توفت.
الجميع متهئ لوداع أبي؛ والتي رحلت أمي بالموت اختطافاً دون وداع ، لله في كل شئ حكمة ، فحتماً لن أطيق توديعها، هي أهلي وأقاربي وأنيسي ، الوحيدة التي كانت لا تفارقني إلا وقت النوم .. لم أشعر بالعزلة والوحدة وهي معي تواسيني وتدعو لي وتروح عني ..
غابت الشمس عني في اليمن بدفئها وحنانها فرجعت إلى القاهرة، لأبحث لي عن شمس، علني أجد فيها دفئاً وبعض حنان.. فكانت زوجتي رعاها الله نعم المواسي؛ وكان التحدي لها هذه المرّة أكبر، مسؤولية طفلين وأنا والغربة دون قريب ولا صديق .. إلا أن الله سبحانه وتعالى الذي قدر لنا العيش في المهجر قد ساق لنا وسخر من كانوا لنا أحسن من الأقارب، وقفوا معنا حتى استقرينا ولا زالوا..
بشاشةً وشهامةً ونجدةً وجدناها في المصريين عامة ، عُرفت عنهم ولمسناها واقعاً..
إستمرينا مستقرين مع ولدينا سنتين ونصف تحققت خلالها الكثير من أهدافي الصحية ، حيث استطعت الوقوف والتخطي والمشي لوحدي على قصبتي المتوازي وعلى مشاية اليد، بعد أن كنت أرى ذلك مستحيلاً، ويراه كذلك بعض الأطباء الذين صرحوا لنا مسبقاً ، فتحققت المعجزة أو الكرامة بحمد الله ، والمطلوب المحافظة على المستوى والتطوير ..
جاء لزيارتنا أخي الأكبر وأسرته ؛ قضينا معهم شهراً جميلاً في نزهةٍ يومية؛ وعند عودتهم قررت السفر معهم بإيعاز وإلحاح من زوجتي، قالت: زُر والدك فقد لا تلقاه.. كأنها نظرت بنور الله، وتلك فراسة المؤمن.. ولم تكن الظروف المادية تسمح بسفرنا جميعاً.. قدمتُ على والدي وهو معافى كما عرفته.. بعد أيام أصيب بوعكة برد وتدهورت حالته الصحية لكبر سنه ودنو أجله.. خلال شهر واحد انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن ودعته الوداع الأخير ..
هناك ممن أعرف من توفي والديه أو أحدهما أثناء سفره ولم يوفق لوداعهما وظلّت في قلبه حسرة ؛ فتفكرت وتذكرت أن الله عز وجل يحيطني بمنح ربانية ؛ بدأت تتجلى أمامي أكثر من بعد إصابتي..
المنحة
أدركت أن سفري للقاهرة هذه المرة سيطول ربما لسنوات وربما الأجل ينتظرني هناك.. وفاة والداي أجهظت شوقي لوطني ، وولداي مع أمهم سعداء في عيشهم في وطنهم الثاني مصر .. قررت البقاء ثاوياً فيها إلى أن يأذن الله ، تردأني أم أولادي لنفظ غبار الإعاقة والغربة بالانشغال بما يفيد ..
عزمنا معا على تحقيق الهدف الثالث وهو مواصلة الدراسة العليا ومن ثم الحصول على وظيفة مناسبة والانخراط في المجتمع من جديد ، مع شراء سيارة مجهزة تساعد في ذلك ، لنعيش ونسعد في الدنيا والآخرة بمشيئة الله ولن يخيب الله سعينا وأملنا وسيرضينا في الدارين طالما نحن معه في السر والعلن ..
ومع علمنا يقينا أن الحقوق لا تُعطى أو تُمنح أو تُوهب ، بل تُؤخذ وتُطلب وتُنتزع ويتم الدفاع عنها خاصة في مجتمعاتنا ( دول العالم الثالث ) التي حتى وإن وجدت فيها قوانين ، فلا تطبق إلا بانتقاء وتمييز ..
بدأنا بجهد مشترك ، أنا بالتخطيط وهي بالتنفيذ .. كانت كلمات تشجيعها لي هذه المرة أقوى من كل مرة : نجاحك أعتبره نجاح لي وما عجزت عنه أنا من تعليم سأحققه من خلالك ..
اتجهنا لمقابلة السفير ، لم نتمكن لعدم أخذ موعد سابق ، فأوعزت لها أن تنسل من خلفه عند دخوله المكتب لتسليمه رسالتي ، حاول زبانيته منعها فأمر هو بدخولها وأبدى تجاوبا فوق ما كنا نتوقع .. كتب رسالة بخط يده وطُبعت لعرضها على وزير التعليم العالي لاعتماد المنحة بشكل استثنائي نظراً لظروف الطالب وطموحه ؛ ووجهنا لأفضلية وجود واسطة .. لم نجدها فقررنا التوكل على الله بذهاب أم محمد بنفسها علها توفق ، ودعائي معها.. قطعت شوطاً كبيراً بمساعدة ملاكٍ أرسله الله إليها .. امرأة فاضلة ما لبثت أن تعرفت عليها في المطار ، ساندتها حين دخلت للوزير وتكفلت بإكمال المعاملة ، لأنها لا تستطيع الغياب عن بيتها وأولادها ؛ ثم أهدتها لابتوب من الجيل الرابع تقديراً وإعجاباً بطموحها وزوجها وودعتها وداع الأم لابنتها..
فترة غيابها عرفت مدى استفادتي من العلاج التأهيلي حيث اعتمدت على نفسي ومساعدة ولدي محمد ..
صوت رنين هاتفي الجوال يزين شاشته اسم الدكتورة وفاء العاقل ، علّه خبر سار .. بصوت متهدج كأنما صُنع من أسى : تقرر وقف علاجك نظراً لطول المدّة ..
جاءت بشارة أخي في نفس اليوم : إبدأ المذاكرة وكل شئ جاهز ، المنحة مع الدعم المالي ، فقد رتَّب وضعه الوظيفي وأكمل الموضوع بالوساطة المطلوبة.. حقاً من توكل على الله كفاه ، وإذا أغلق الله باباً من الرزق ، فتح أبواباً أصفى وأنفع ..
هذا ما كنت أنتظره لأنقل نفسي وأسرتي بحول الله إلى مستوى أفضل إجتماعياً ومادياً ؛ وأشغل نفسي بما يفيد ، اسجابة لأمر الله وتحقيق الرسالة من وجودي ..
أما رواء فقد استغلت فوائد السفر الخمس كما قالها الشافعي ، تفرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب ورفقة ماجد ؛ وهي الآن تواصل دراستها في الصف الثالث الإعدادي بعد أن تجاوزت محو الأمية ؛ وتأمل أن تكون حياتها كما هي الآن مليئة بالكفاح فإن لذيذ العيش في النصب ، وكذلك النفوس الأبية لا ترتاح إلا بالتعب ..
ويبقى السؤال المتكرر الذي تراه رواء في عين كل من علم حكايتها من الجهة التي ظاهرها العذاب ، ولم يعلم أن باطنها الرحمة .. ويُصرّح بعض المتنطعين : ألم تشعري بالملل ؟ ، تُجيب مؤمنة واثقة : ما علينا إلا إصلاح النية بالإخلاص لمن خلق فسوّى وقدّر فهدى .. وكما يقول علماؤنا ( من وجد الله فماذا فقد ، ومن فقد الله فماذا وجد ) ..
ثم أن ما قد يبعث على الملل هو شخصية الزوج ، وليس إصابته أو مرضه ؛ وكم نرى أمامنا من حالات الطلاق ، والنوع الجديد الذي يسمى بالطلاق العاطفي ، حيث تبقى العلاقة أمام الناس ومن أجل الأولاد إن وجدوا ، مع انفصام كل روابط الزوجية الأخرى .. أما نحن ولله الحمد فقد تمسكنا بالمعاني السامية – السكن ، الأُنس ، المودة والرحمة _ لهذه العلاقة القدسية والميثاق الغليظ كما سماه الله ، قال تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ًورحمة ) ..
وتُردف رواء قائلة : أنا مثلاً إذا عرضت لي أي مشكلة ؛ لا أستجير بوالداي أو أسرتي أو صديقاتي ؛ بل أجد لجوئي بعد الله لأحق الناس بصحبتي (زوجي) لما خبرت فيه من رجاحة عقل وحلم وحكمة ، فيأخذ بيدي مواسيا وقائداً إلى طريق النجاة فإذ بالسماء تصفو والغيوم تتقشع ويذهب الرّان من القلوب ..
نعم كما أن خير متاع الدنيا المرأة الصالحة ، فخير متاعها الزوج الصالح ، وإن أصابه الدهر بسهم ، فليس يُرجم إلا من به ثمرُ ، وليس يُكسف إلا الشمسُ والقمرُ .
وبما أن عجلة الحياة لا تتوقف إلا بالموت ، إما إلى الأمام وإما إلى الخلف فلا بد من انتباه للحاضر واستشراف للمستقبل الذي قد رُسمت معالمه بولادة مرحلة جديدة من العمل وبناء أسرة قوية نافعة تشارك في بناء المجتمع المثالي .
اشتركنا بوضع أهداف طموحة جديدة لعشر سنوات قادمة متخيلين كيف سنكون في حال تحقيقها ، فالخيال أساس النجاح مع التوكل والعمل بالأسباب.. إن الله لايخيب أمل آمل ولا يضيع عمل عامل .. وفي الحديث القدسي : أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيراً فله وإن ظن بي شراً فله...
- أخيراً حصلت على منحة؛ وفي حقيقة الأمر أن منحتي الحقيقية هي رواء -
الخاتمة
ما أصابك خيرٌ مما حُجب عنك
ِ
كثيرٌ منا يعرف قصة الملك الذي نجا من الموت بسبب قطع أحد أصابعه ؛ وقصة الفتى الذي أخره جرحه عن موعده للوصول إلى القرية التي حُرقت بمن فيها ؛ وقصة نبي الله موسى مع الخضر عليهما السلام ، بخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار .. كلها تؤكد حقيقة واحدة أن الله عز وجل لا يحب لنا إلا الخير .. خلقنا بيده ، ونفخ فينا من روحه ، وأسجد لنا الملائكة ، وسخر لنا الكون بما فيه ؛ ثم يريد شقاءنا وتعذيبنا ، لا والله .. إنما تقصر الأفهام أحياناً عن إدراك الحقيقة ، كما قصُر فهم الملك والفتى ، وحجب الله الحكمة عن كليمه موسى عليه السلام ؛ فساق الله لنا القصة لنسلّم ونرضى ، سواء أدركنا الحكمة أم لم ندرك .. إنها في الحقيقة هدايا وعطايا ظاهرها مصائب ؛ منح ظاهرها محن..
فما خلقنا ليعذبنا وقد كرمنا كل هذا التكريم ؛ حاشاه سبحانه لكن حكمته المطلقة اقتضت ألا يعمل إلا الخير المطلق وإن كان ظاهره الضرر..
مصائب قصم وردع للكافرين الذين علم سبحانه أنهم لن يؤمنوا وإن عاشوا وإن رأوا الجنة والنار ؛ ومصائب دفع ورفع للمؤمنين ، يدفعهم ليتلذذوا بمناجاته وقربه ويرفعهم في الدرجات في الآخرة..
ومن حكايتنا المتواضعة التي أرجو أن تكونوا عشتم معي فيها رأيت لطف الله يحيطني من كل جانب وحالتي العامة الآن أفضل من حالتي قبل الحادث وإن كان ظاهرها المصيبة والتعب .. لكن تعويض الله في الدنيا قد حصدت منه الكثير ، وأطمع بالمزيد ، وفي انتظار المزيد يوم المزيد...
ختاماً أرجو الله أن يُزهر الإيمان في قلوبنا جميعاً كي لانعرف الحزن مهما أصابنا ، وأن يوفقنا لما يصلح شأننا كله ، هو حسبنا ونعم الوكيل .
[/size]
تعرفت على بستانكم المثمر وروضتكم الغناء قريبا مصادفة – أو قل قدرا ً- وأنا اتصفح الموقع العربي لاصابات النخاع الشوكي لاجد اجابة لبعض تساؤلات، وجدتها في موقع التحدي الصديق تحت بند ( مواقع صديقة )، فأدركت قدر الصداقة حتى في المواقع الالكترونية ..
لا أطيل.. أترككم مع جزء من قصتي في التحدي كعربون صداقة واستئذان على استحياء لتقبلوني في رحابكم أيها الكبار ذوي القلب الواحد ..
تحدي
المأدبة التي حظي بها المولود يوم سابعه ، اللحظات السعيدة التي أقضيها في مداعبته من على بعد، لم ترويني فأستجمع قواي لأزيد قرباً، دافعاً جسدي لأنبطح عليه وجهاً لوجه معتمداً على ما تبقى من قوة ذراعاي، لأجترفه بكفاي، وأعتنقه وأشم ريحه لترتوي روحي ، حتى إذا ما تعبت ذراعاي وضعته ..
أصبح لدي طفلين ضعيفين بحاجة إلى أب قوي يرعاهما ، وامرأة بحاجة لزوج يكون أداة قوة إضافية لها لا أداة ضعف يزيدها ضعفاً ؛ فبدأت أفكر وأعيد النظر ألف مرة .. كيف سأقدم نفسي لهم وللمجتمع ؟! هل سأتواكل وأقول ربي الذي أصابني ولا مخرج لي إلا الاستسلام لقدره ؟ أم سأحارب قدر الله بقدر الله ، فكانت الثانيه ..
عقدت العزم وتوكلت على الله حق التوكل بالالتجاء إليه والعمل بالأسباب ؛ ساعدني في ذلك بعض أصدقائي الجادين وأخص الأخ عبد الباسط قاسم الذي أعطاني برامج في التنمية البشرية للدكتور صلاح الراشد ، مثل برنامج التفكير الإيجابي ، وكيف تصبح متفائلا ، وكن مطمئنا وغيرها ، وكذا كتب للدكتور ابراهيم الفقي ..وشرَط عليّ التطبيق العملي قائلاً : إن هذا هو علاجك الحقيقي ...
بدأت الاستماع مع الكتابة بشغف بالغ ، وقرأت الكتب بإقبال ونهم .. استهواني أن تلك البرامج تجمع بين المفيد مما جاء في العلوم المدنية الحديثة وتؤصلها من الكتاب والسنة كما قال جل وعلا (ما فرطنا في الكتاب من شئ ) ؛ لم يتبقى إلا شرط التطبيق العملي ..
شرعت بوضع الأهداف بدقة ، روحية - صحية - شخصية - عائلية – اجتماعية – مادية واقتصادية ، تصورت كيف سأكون في حال تحقيقها بعد خمس أو عشر سنوات، فزادني ذلك عزيمةً وإصراراً .. ولعل أهم الأهداف ثلاثة لكل هدف ثلاثة أسباب:
أولاً: حفظ القرآن الكريم:
أ- إخلاصا لله لأكون من أهله وخاصته .
ب- استشفاء للروح والجسم .
ج- إحسانا لوالداي كما أحسنوا إلي .
ثانياً: ممارسة العلاج التأهيلي على أيدي متخصصين:
أ - عملاً بالأسباب فما جعل الله داءً إلا جعل له دواء .
ب- تحقيقا للاستقلالية قدر المستطاع .
ج-المحافظة على أجهزة الجسم الداخلية ومستوى النشاط .
ثالثاً: مواصلة الدراسة العليا:
أ- تحدياً للإعاقة وتحقيق القدوة .
ب- المؤهل يساعد على مواجهة ظروف الحياة مستقبلا .
ج – الانشغال بما يفيد وتنمية الشخصية لأداء الرسالة من وجودي.
ثم هناك أهدافاً تفصيليةً، مسقطة على خمس سنوات، ثم السنة، ثم الربع سنة..
بعد التخطيط الدقيق المفصل ، انقشعت سحابة الحيرة واستحال الخوف من المستقبل إلى أمن وسكينة، لمجرد التخطيط ، وكلما شرعت في التنفيذ كلما تأكدت ثقتي وزاد يقيني بالوصول، بل بالتجاوز بتوفيق الله ..
اندفعت بكل إرادتي وإمكانياتي، فبدأت بحفظ القرءان الكريم، مستمداً منه قوتي، مستجدياً مباركة الخالق عز وجل ؛ تجاوزت الزهراوين ( البقرة وآل عمرن) إلى الجزء السابع ، وسعيت لتحقيق الهدف الرئيسي الثاني، باذلاً الأسباب لممارسة العلاج التأهيلي على أيدي متخصصين؛ لم أجدهم في اليمن فاتجهت صوب القاهرة، حيث وجدتها المكان الأنسب بعد دراسة لمدى قدرتي على ذلك مادياً ومعنوياً..
ومع شحة الإمكانيات وطموح الهدف ، كان التحدي أصعب .. العلاج التأهيلي يتطلب نفَس طويل ونفقات طائلة ، لطول مدته كما هو معروف ، لكن الدافع والرغبة كانت أقوى .. استودعنا ولدانا الله على صغر سنهما ولين عودهما – أحدهم في الخامسة والآخر لم يبلغ الفطام – عند والداي الكبيرين فالوضع لا يحتمل مرافق آخر أو أولاد ..
استغنيت عن أي مرافق ، عدا زوجتي ، التي أصبحت يدي التي أبطش بها وعيني التي أبصر بها ورجلي التي أمشي بها ؛ وبهذا كان التحدي ، حيث سخر منا أكثر من حولنا ، ورثى لنا البعض الآخر ؛ إذ كيف ستهاجر امرأة ضعيفة ، قليلة الخبرة والتعليم ، بمفردها إلى ما بعد البحار ، مع زوج مشلول يحتاج إلى حماية فضلاً عن أن يحميها ..
كثرة التساؤلات من الأهل والجيران لم تثننا عما عزمنا عليه ، قالوا أن البرامج النظرية وكلام الكتب أثر علي فحاولوا مع زوجتي:
- هل أنتم جادين فيما تقولون لو كان صادق خيالي ومغامر فلا تٍكوني مثله؛ أنت الأكثر خسارة بفراق أطفالك لمغامرة مجهولة في أم الدنيا .. يجب أن تعيدوا النظر ؟
- الله معنا ولن يضيعنا .
قرّرنا خوض التجربة متوكلين على الله آخذين بالأسباب المتاحة .. وبين شد وجذب من أفراد العائلة بين مؤيد ومعارض جاء موعد الحجز لفظ النزاع .. وأتى يوم السفر ..
أحجم أخي الأكبر عن توديعنا ، لا أدري شفقةً على ما يمكن أن نواجه أم غضباً لما سيصيبه من كلام الناس أو لعلّهما معاً..
يوم سفرنا هذه المرة، كان يوما مشهوداً، شبيهاً بذلك اليوم بعد الحادث .. أظهر الجميع رباطة جأش لعدم تثبيطنا، ما لبثت أن تلاشت في صالة المطار حيث أجهش الجميع بالبكاء، خاصة أمي وطفلي محمد وآية ابنة أخي التي كانت تراني أباً وصديقاً وعماً ..
دمعت عيناي وعينا زوجتي أمام ذلك المشهد ؛ كاد الضعف يدب إلى أعماقنا ونحن نحتضن ولدينا في آخر وداع لا ندري ما بعده ..
فوجئت بدفعةٍ قوية تحرك عجلات الكرسي المثقلة لتسرع بنا إلى صالة المغادرة النهائية، لتكسر ترددي وضعفي، وتبدلني عزيمةً وإصراراً وقوةً، استمديتها من يدي رفيقتي الدافعة للكرسي، وروحها العاشقة للتحدي ومكابدة الصعاب ..
انطلقنا وعينا والدتي ترمقنا وتباركنا بالدعوات، التي رأيناها متحققة أمامنا منذ صعودنا سلم الطائرة وحتى عودتنا ( الله يسخرلكم ويحميكم ويردكم سالمين غانمين ) ..
بعد إقلاع الطائرة واستقرار سرعتها على الارتفاع المقرر خالجنا شعور غريب متبادل ونحن نتبادل النظرات مسرورين ببعضنا:
- هل أنت نادمة ؟
- كلا بل مسرورة جدا لأنك أعطيتني الفرصة لإثبات الذات وخوض التجربة.
- لن تضعفي مستقبلا !
- واثقة أني سأزداد قوة ، نرتب وضعنا ثم نستقدم الأولاد وبذا نستقر .
لا تردد ولا تلكؤ .. ثبات موقفها دعّم شعوري بالسعادة ، كأننا ذاهبين لقضاء شهر العسل حقيقة لا مجازا ؛ نستمتع برحلتنا الجوية ، وما فيها من تشويق برؤية تشكيلات السحاب ، وقدرة الله في بسط الأرض ورفع السماء ،وتسخير كل شئ في الكون، بنسب تتناسب لتناسب خليفته المكرم ..
شهر عسل لعروسين مؤمنين، ارتفعا بإيمانهما عن السنن البشرية والموازين الوضعية، إلى سنن الله الحقيقية التي تحوّل المحن إلى منح، والمصائب إلى مناقب إضافية، تخلق روح الإبداع وتُنْبئ بنشوة نجاحٍ مرتقب ..
إحساس تملكنا ونحن نبتعد عن جاذبية الأرض بمفاسدها ، ونقترب من السماء بقدسيتها .. تمنينا استمرار ذلك القدر من السعادة والإيمان واليقين ، بعد أن تجذبنا الأرض إليها ثانية عند الهبوط..
وهاكم الأرض الممتلئة بالمتناقضات، تجذبنا للخوض في المعمعه ..
وصلنا إلى مطار القاهرة مساءً ، أنزلونا بالرافعة بعد نزول الركاب وأنجزنا تختيم الجوازات، ثم خطونا بكل ثقة نحو بوابة الخروج حيث المستقبلين ..
فور خروجنا بادر إلينا ببشاشة ، شخص صيني الجنسية ؛ علمنا أنه من طلبة الأزهر –أنتم من طرف الأخ عبد السلام ؟ أجبنا بالإيجاب .. اصطحبنا إلى الشقة التي أعدها لنا بجوار مركز التأهيل ، فشكرناه وأهديناه شيئاً من البن اليمني الفاخر.
بعد ذهابه ؛ تفحصنا الشقة ، فوجدناها غير صالحة للسكن .. سرير مكسور، تلفزيون قديم لا يعمل، غرفة إعداد الطعام مليئة بأنواع الصراصير، وكذلك الثلاجة ، والأهم من ذلك كله الرطوبة الشديدة على الجدران ، حتى أنها لم تستطيع الصمود فانهال الأسمنت من عليها ..فكيف بنا ، كيف سنقاوم شدة البرد مع الرطوبة ؟! ولولا اصطحابنا اللحاف الثقيل لتجمدنا من البرد لعدم وجود أي بطانية ؛ لكن سرورنا بالاستقرار أول ليلة، حول تلك الشقة إلى قصر ولو مؤقتا ..
آه ما أجمل نسمات الصباح في الوقت المتميز من الفجر إلى الشروق وإن كان شتاءً ؛ استنشقت رائحة النيل من شرفة الغرفة فأدركت أننا بالقرب منه..
بدأنا بالعلاج ونفذنا المخطط بفتح حساب في البنك وعمل ميزانية للمعيشة والسكن ، شراء خريطة لمدينة القاهرة لنعرف موقعنا في أي مكان نذهب دون الحاجة إلى السؤال حتى لا نُستغل ، مع البحث عن أي جمعية يمكن أن تدعمنا للاستمرارل في العلاج ..
كانت المعضلة أمامنا غلاء السكن ، فمصر بلد سياحي والشقق المفروشة مشروع استثماري ناجح .. أعيانا البحث عن سكن يتناسب مع المشروع الذي قدمنا لأجله ، تكلفة السكن الداخلي في مركز التأهيل باهضة خاصة لغير المصريين ، وحتى الجمعيات في مصر لاتدعم غير المصريين ، لجأت إلى إحدى شركات المجموعة التي كنت أعمل فيها في القاهرة فحصلت على مبلغ استغليته مباشرة بعمل عقد مفتوح بإيجار بسيط لشقة خلو في حي شعبي متوسط قريب من مركز التأهيل ..
-أربعة أشهر من أجمل أيام عمرنا على كورنيش النيل نتشبه بالعاشقين-
تبدد الخوف والألم وأيقنا أنه باستطاعتنا العيش كما نريد وكما أراد الله لنا .. يمكن أن أمارس حياتي بشكل طبيعي .. صحيح أن القاهرة ليست في مستوى الدول المتقدمه لكننا نراها متقدمة كثيراً عن بلدنا في المجال الصحي، والتعليمي، والبنية التحتية، وكل شئ ، وإن كنا نتقارب في مستوى المعيشة ومتوسط دخل الفرد ..
كانت الشقة مصدر الاستقرار لنا في القاهرة، فيمكننا الان السفر والعودة في أي وقت مع ولدينا .. أحسنا الظن والأمل بالله فلم يخيب أملنا، وتحقق الهدف الثاني بممارسة العلاج التأهيلي على أيدي متخصصين في أشهر مركز على مستوى الشرق الأوسط بتكلفة مقدورة خاصة بعد أن حلت مشكلة السكن..
توّج استقرارنا مجئ الدكتورة الفاضلة وفاء العاقل ذات مساء تعرض علينا العلاج على نفقة جهة خيرية تشرف عليها ، حين علمت خبرنا من احد المعارف ، واستمرت بدعمنا لمدة سنتين ..
الوداع
لم يمر على انتقالنا للبيت الجديد سوى خمسة عشر يوما ؛ جاءنا اتصال أن الوالد في مرض الموت يطلب رؤيتنا ، عدنا على أول طائرة ، فعلاً من رآه يجزم أنه لن يعيش.. أطباء اليمن شخصوا حالته بالسرطان، وتبين خطأ التشخيص فيما بعد..
أما أمي الحبيبة كانت في كامل صحتها، مع شحوب وحزن ظهر على وجهها لقرب فراقها لرفيق عمرها .. فجأةً ودون أي مقدمات صرخت تشكو آلام في جوفها ، وما هي إلا ساعات حتى انتقلت إلى رحمة الله بجلطة مفاجئة في القلب..
سبحان الله والدي تماثل للشفاء بل شُفي تماماً بعد شهر ونيف ، وأمي هي التي توفت.
الجميع متهئ لوداع أبي؛ والتي رحلت أمي بالموت اختطافاً دون وداع ، لله في كل شئ حكمة ، فحتماً لن أطيق توديعها، هي أهلي وأقاربي وأنيسي ، الوحيدة التي كانت لا تفارقني إلا وقت النوم .. لم أشعر بالعزلة والوحدة وهي معي تواسيني وتدعو لي وتروح عني ..
غابت الشمس عني في اليمن بدفئها وحنانها فرجعت إلى القاهرة، لأبحث لي عن شمس، علني أجد فيها دفئاً وبعض حنان.. فكانت زوجتي رعاها الله نعم المواسي؛ وكان التحدي لها هذه المرّة أكبر، مسؤولية طفلين وأنا والغربة دون قريب ولا صديق .. إلا أن الله سبحانه وتعالى الذي قدر لنا العيش في المهجر قد ساق لنا وسخر من كانوا لنا أحسن من الأقارب، وقفوا معنا حتى استقرينا ولا زالوا..
بشاشةً وشهامةً ونجدةً وجدناها في المصريين عامة ، عُرفت عنهم ولمسناها واقعاً..
إستمرينا مستقرين مع ولدينا سنتين ونصف تحققت خلالها الكثير من أهدافي الصحية ، حيث استطعت الوقوف والتخطي والمشي لوحدي على قصبتي المتوازي وعلى مشاية اليد، بعد أن كنت أرى ذلك مستحيلاً، ويراه كذلك بعض الأطباء الذين صرحوا لنا مسبقاً ، فتحققت المعجزة أو الكرامة بحمد الله ، والمطلوب المحافظة على المستوى والتطوير ..
جاء لزيارتنا أخي الأكبر وأسرته ؛ قضينا معهم شهراً جميلاً في نزهةٍ يومية؛ وعند عودتهم قررت السفر معهم بإيعاز وإلحاح من زوجتي، قالت: زُر والدك فقد لا تلقاه.. كأنها نظرت بنور الله، وتلك فراسة المؤمن.. ولم تكن الظروف المادية تسمح بسفرنا جميعاً.. قدمتُ على والدي وهو معافى كما عرفته.. بعد أيام أصيب بوعكة برد وتدهورت حالته الصحية لكبر سنه ودنو أجله.. خلال شهر واحد انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن ودعته الوداع الأخير ..
هناك ممن أعرف من توفي والديه أو أحدهما أثناء سفره ولم يوفق لوداعهما وظلّت في قلبه حسرة ؛ فتفكرت وتذكرت أن الله عز وجل يحيطني بمنح ربانية ؛ بدأت تتجلى أمامي أكثر من بعد إصابتي..
المنحة
أدركت أن سفري للقاهرة هذه المرة سيطول ربما لسنوات وربما الأجل ينتظرني هناك.. وفاة والداي أجهظت شوقي لوطني ، وولداي مع أمهم سعداء في عيشهم في وطنهم الثاني مصر .. قررت البقاء ثاوياً فيها إلى أن يأذن الله ، تردأني أم أولادي لنفظ غبار الإعاقة والغربة بالانشغال بما يفيد ..
عزمنا معا على تحقيق الهدف الثالث وهو مواصلة الدراسة العليا ومن ثم الحصول على وظيفة مناسبة والانخراط في المجتمع من جديد ، مع شراء سيارة مجهزة تساعد في ذلك ، لنعيش ونسعد في الدنيا والآخرة بمشيئة الله ولن يخيب الله سعينا وأملنا وسيرضينا في الدارين طالما نحن معه في السر والعلن ..
ومع علمنا يقينا أن الحقوق لا تُعطى أو تُمنح أو تُوهب ، بل تُؤخذ وتُطلب وتُنتزع ويتم الدفاع عنها خاصة في مجتمعاتنا ( دول العالم الثالث ) التي حتى وإن وجدت فيها قوانين ، فلا تطبق إلا بانتقاء وتمييز ..
بدأنا بجهد مشترك ، أنا بالتخطيط وهي بالتنفيذ .. كانت كلمات تشجيعها لي هذه المرة أقوى من كل مرة : نجاحك أعتبره نجاح لي وما عجزت عنه أنا من تعليم سأحققه من خلالك ..
اتجهنا لمقابلة السفير ، لم نتمكن لعدم أخذ موعد سابق ، فأوعزت لها أن تنسل من خلفه عند دخوله المكتب لتسليمه رسالتي ، حاول زبانيته منعها فأمر هو بدخولها وأبدى تجاوبا فوق ما كنا نتوقع .. كتب رسالة بخط يده وطُبعت لعرضها على وزير التعليم العالي لاعتماد المنحة بشكل استثنائي نظراً لظروف الطالب وطموحه ؛ ووجهنا لأفضلية وجود واسطة .. لم نجدها فقررنا التوكل على الله بذهاب أم محمد بنفسها علها توفق ، ودعائي معها.. قطعت شوطاً كبيراً بمساعدة ملاكٍ أرسله الله إليها .. امرأة فاضلة ما لبثت أن تعرفت عليها في المطار ، ساندتها حين دخلت للوزير وتكفلت بإكمال المعاملة ، لأنها لا تستطيع الغياب عن بيتها وأولادها ؛ ثم أهدتها لابتوب من الجيل الرابع تقديراً وإعجاباً بطموحها وزوجها وودعتها وداع الأم لابنتها..
فترة غيابها عرفت مدى استفادتي من العلاج التأهيلي حيث اعتمدت على نفسي ومساعدة ولدي محمد ..
صوت رنين هاتفي الجوال يزين شاشته اسم الدكتورة وفاء العاقل ، علّه خبر سار .. بصوت متهدج كأنما صُنع من أسى : تقرر وقف علاجك نظراً لطول المدّة ..
جاءت بشارة أخي في نفس اليوم : إبدأ المذاكرة وكل شئ جاهز ، المنحة مع الدعم المالي ، فقد رتَّب وضعه الوظيفي وأكمل الموضوع بالوساطة المطلوبة.. حقاً من توكل على الله كفاه ، وإذا أغلق الله باباً من الرزق ، فتح أبواباً أصفى وأنفع ..
هذا ما كنت أنتظره لأنقل نفسي وأسرتي بحول الله إلى مستوى أفضل إجتماعياً ومادياً ؛ وأشغل نفسي بما يفيد ، اسجابة لأمر الله وتحقيق الرسالة من وجودي ..
أما رواء فقد استغلت فوائد السفر الخمس كما قالها الشافعي ، تفرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب ورفقة ماجد ؛ وهي الآن تواصل دراستها في الصف الثالث الإعدادي بعد أن تجاوزت محو الأمية ؛ وتأمل أن تكون حياتها كما هي الآن مليئة بالكفاح فإن لذيذ العيش في النصب ، وكذلك النفوس الأبية لا ترتاح إلا بالتعب ..
ويبقى السؤال المتكرر الذي تراه رواء في عين كل من علم حكايتها من الجهة التي ظاهرها العذاب ، ولم يعلم أن باطنها الرحمة .. ويُصرّح بعض المتنطعين : ألم تشعري بالملل ؟ ، تُجيب مؤمنة واثقة : ما علينا إلا إصلاح النية بالإخلاص لمن خلق فسوّى وقدّر فهدى .. وكما يقول علماؤنا ( من وجد الله فماذا فقد ، ومن فقد الله فماذا وجد ) ..
ثم أن ما قد يبعث على الملل هو شخصية الزوج ، وليس إصابته أو مرضه ؛ وكم نرى أمامنا من حالات الطلاق ، والنوع الجديد الذي يسمى بالطلاق العاطفي ، حيث تبقى العلاقة أمام الناس ومن أجل الأولاد إن وجدوا ، مع انفصام كل روابط الزوجية الأخرى .. أما نحن ولله الحمد فقد تمسكنا بالمعاني السامية – السكن ، الأُنس ، المودة والرحمة _ لهذه العلاقة القدسية والميثاق الغليظ كما سماه الله ، قال تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ًورحمة ) ..
وتُردف رواء قائلة : أنا مثلاً إذا عرضت لي أي مشكلة ؛ لا أستجير بوالداي أو أسرتي أو صديقاتي ؛ بل أجد لجوئي بعد الله لأحق الناس بصحبتي (زوجي) لما خبرت فيه من رجاحة عقل وحلم وحكمة ، فيأخذ بيدي مواسيا وقائداً إلى طريق النجاة فإذ بالسماء تصفو والغيوم تتقشع ويذهب الرّان من القلوب ..
نعم كما أن خير متاع الدنيا المرأة الصالحة ، فخير متاعها الزوج الصالح ، وإن أصابه الدهر بسهم ، فليس يُرجم إلا من به ثمرُ ، وليس يُكسف إلا الشمسُ والقمرُ .
وبما أن عجلة الحياة لا تتوقف إلا بالموت ، إما إلى الأمام وإما إلى الخلف فلا بد من انتباه للحاضر واستشراف للمستقبل الذي قد رُسمت معالمه بولادة مرحلة جديدة من العمل وبناء أسرة قوية نافعة تشارك في بناء المجتمع المثالي .
اشتركنا بوضع أهداف طموحة جديدة لعشر سنوات قادمة متخيلين كيف سنكون في حال تحقيقها ، فالخيال أساس النجاح مع التوكل والعمل بالأسباب.. إن الله لايخيب أمل آمل ولا يضيع عمل عامل .. وفي الحديث القدسي : أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيراً فله وإن ظن بي شراً فله...
- أخيراً حصلت على منحة؛ وفي حقيقة الأمر أن منحتي الحقيقية هي رواء -
الخاتمة
ما أصابك خيرٌ مما حُجب عنك
ِ
كثيرٌ منا يعرف قصة الملك الذي نجا من الموت بسبب قطع أحد أصابعه ؛ وقصة الفتى الذي أخره جرحه عن موعده للوصول إلى القرية التي حُرقت بمن فيها ؛ وقصة نبي الله موسى مع الخضر عليهما السلام ، بخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار .. كلها تؤكد حقيقة واحدة أن الله عز وجل لا يحب لنا إلا الخير .. خلقنا بيده ، ونفخ فينا من روحه ، وأسجد لنا الملائكة ، وسخر لنا الكون بما فيه ؛ ثم يريد شقاءنا وتعذيبنا ، لا والله .. إنما تقصر الأفهام أحياناً عن إدراك الحقيقة ، كما قصُر فهم الملك والفتى ، وحجب الله الحكمة عن كليمه موسى عليه السلام ؛ فساق الله لنا القصة لنسلّم ونرضى ، سواء أدركنا الحكمة أم لم ندرك .. إنها في الحقيقة هدايا وعطايا ظاهرها مصائب ؛ منح ظاهرها محن..
فما خلقنا ليعذبنا وقد كرمنا كل هذا التكريم ؛ حاشاه سبحانه لكن حكمته المطلقة اقتضت ألا يعمل إلا الخير المطلق وإن كان ظاهره الضرر..
مصائب قصم وردع للكافرين الذين علم سبحانه أنهم لن يؤمنوا وإن عاشوا وإن رأوا الجنة والنار ؛ ومصائب دفع ورفع للمؤمنين ، يدفعهم ليتلذذوا بمناجاته وقربه ويرفعهم في الدرجات في الآخرة..
ومن حكايتنا المتواضعة التي أرجو أن تكونوا عشتم معي فيها رأيت لطف الله يحيطني من كل جانب وحالتي العامة الآن أفضل من حالتي قبل الحادث وإن كان ظاهرها المصيبة والتعب .. لكن تعويض الله في الدنيا قد حصدت منه الكثير ، وأطمع بالمزيد ، وفي انتظار المزيد يوم المزيد...
ختاماً أرجو الله أن يُزهر الإيمان في قلوبنا جميعاً كي لانعرف الحزن مهما أصابنا ، وأن يوفقنا لما يصلح شأننا كله ، هو حسبنا ونعم الوكيل .
[/size]
تعليق