لقد دعوت الله أن يكون غداً يوماً مشرقاً في حياتي
وأن أبدأ بخوض غمار الحياة من جديد
ولكن بطاقة عظيمة ليس لها أرجل بل لها أجنحة ...
وطلبت من الله أن يعينني على ما سأرى وأواجه ....
فهذه الدنيا متنوعة الأحوال ومختلفة الألوان فلا حزن يدوم ولا سرور
وكان الغد يوم جمعة ...
*****
لقد صحوت باكراً مع آذان الفجر
فحمدت الله الذي هدانا وأنعم علينا بنعم لا تعد ولا تحصى
فهو إن أخذ شيئاً فقد أبقى أشياء
ثم ذهبت فاغتسلت وصليت الفجر حاضراً وقرأت ما تيسر من القرآن واستوقفتي آية
" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " لقد أخذت في البكاء في تلك اللحظة مدركاً عظمة الله وسعة رحمته وضألة نفسي وضيق جهدي وقصر نظري فطلبت من الله أن يغفر لي إسرافي وغفلتي وأن يعطيني الإيمان والقوة والصبر على ما أصابني وأن لا يضيع أجري
أشرقت الشمس بخيوطها الذهبية وغردت العصافير بألحانها العذبة الشجية فشكرت الله أن أعاد لي حلاوة التفكر ونعمة التأمل في مخلوقاته
قررت أن أصلي الجمعة في المسجد وهذه هي المرة الأولى بعد الإعاقة وكنت أعلم أن التجربة لن تكون سهلة ولكنني قررت أن أخوضها وأن أتحمل كل ما فيها .
نزلت من البيت كالفارس الذي يمتطي حصاناً أصيلاً نعم أنه صديقي الوفي
إن الحي الذي أسكن فيه حي " متواضع " شوارعه شبه معبدة أو قل يوجد فيها جزر من الإسفلت ومستنقعات من المياه الراكدة المتشكلة من مياه الأمطار ومن المياه العادمة
التي تفوح منها الروائح غير الجميلة !
كان الأطفال يلعبون في الشارع بفرح وسرور ويتمرغ بعضهم في التراب وكأن حب التراب جزء من حياتهم فتعجبت من أمرهم كيف يصنعون من كل شيء وسيلة للعب والتسلية ملابسهم متسخة ووجوهم ملطخة بالطين ولكن الابتسامة لا تغادر شفاههم .
ألقيت عليهم التحية فاجتمعوا حولي يتأملونني وعرضوا علي المساعدة فشكرتهم وطلبت منهم عدم اللعب بالقرب من المياه الراكدة فإن فيها الجراثيم والفيروسات
فضحكوا وكأن حالهم يقول : إن الجراثيم والأمراض لا تطيق اللعب معنا أو الاقتراب منا
تركتهم وأنا أتعرج في كرسي بين الحفر حتى أتجنب تلوث الإطارات بالوحل وحتى لا تتسخ ملابسي وبشق الأنفس قطعت هذه الأمتار المتعرجة خلال الشوارع الضيقة
حتى وصلت إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى المسجد
نعم يوجد أرصفة على جوانب الطريق ولكنها للأسف عالية لا يستطيع صاحبي القفز عنها وهي تتسع في بعض الأماكن وتضيق ويستغلها أصحاب المحلات لوضع بضائعهم ويستغلها أيضاً أصحاب البسطات فيجعلون منها أماكن يبيعون فيها ما تيسر لهم ليكسبوا لقمة العيش وفي بعض الأماكن تصطدم بأعمدة الكهرباء المغروسة في منتصف الرصيف أو بالأشجار التي تقطع الطريق على من يستخدم الرصيف وآخرون يستخدمون الرصيف كمواقف لسياراتهم
فقررت أن أسير في الشارع بين السيارات ولكن بحذر
أخذ بعض السواقين يستخدم الزامور ليحذرني من استخدام الشارع فأنا أتنافس مع السيارات وأزيد في الازدحام كما كنت أسمع بعض الشتائم منهم فأغض الطرف عنها وأقول لعلهم يقصدون غيري ! أو ربما لأنني أسلك في المكان المخصص للسيارات والحق معهم .
فكنت أضحك وابتسم في وجوههم نعم إنني اليوم إيجابي ومتفائل !!!
وبعد جهد وعناء وصلت إلى مدخل المسجد وكان موعد الصلاة قد اقترب وما فاجأني أن مصلى الرجال في المسجد يقع في الطابق الثاني ويلزمني أن أصعد أكثر من ثلاثين درجة حتى أصل إليه .
سولت لي نفسي أن ارجع إلى البيت فلا أصلي في مكان لم يفكر في حالي فيه أحد فلو أرادوا لبنوا منحدراً أو جعلوا فيه مصعداً لمثل حالتي أو لكبار السن والمرضى
قلت يخزيك الله أيتها النفس الأمارة بالسوء فلربما لم يذكرهم أحد بذلك ولربما لم يشترط عليهم أحد أن يصنعوا ذلك أو لربما لم يحتج أحد على ذلك فما ذنب من قاموا على بناء هذا المسجد
وقررت أن أتحلى بالصبر وأن أنتظر الفرج
وفي هذه الأثناء وبينما كنت أتأمل هذا الموقف إذا برجل يمد يده إلي فظننت أنه يريد أن يصافحني فوضع في يدي مبلغاً من المال استحييت أن أرده إليه أو أن أصرخ في وجهه فيظن أنني قد استقللت المبلغ وأريد منه المزيد وقلت ما ذنب هذا الإنسان إنه يريد أن يتصدق ويفعل الخير
فجزاه الله خيراً وشكرته ودعوت له !
خجلت من نفسي في تلك اللحظة وعلمت أنني أعتبر الآن متسولا إن رضيت أو أبيت
ولكن هكذا يفكر الناس فما ذنبهم !
وبعد قليل جاء رجل تبدو عليه مظاهر الثراء فوضع في يدي مغلفاً شعرت أن فيه مبلغاً محترماً فما كان مني إلا أن أشكره وأدعو له وقلت في نفسي إن بقيت مدة أطول فسأصبح محترفاً
ولكن ما ذنبهم إنهم يحبون المساعدة وعمل الخير ...
بعدها أتى مجموعة من الشباب فبادروا إلى حملي وصعدوا بي الدرج ولساني يلهج بشكرهم والدعوة لهم بالصحة والعافية حتى استوقفني رجل ملتحي عند مدخل المصلى
فقال : إلى أين تذهبون به ؟
فأجبته أنني أريد الصلاة .
قال : وهذا الكرسي : أتظن أنه لم يعلق به شيء من الوحل أو الطين أو النجاسة
فلا تدخل به إلى داخل المسجد !
فبادر أحد الشباب وقال سوف آتي بكرسي من الداخل ونحملك عليه
فقلت وأين أضع هذا الكرسي فإنه لا يوجد له مكان حتى عند الأحذية
قال الرجل : هذا ليس شغلي !
قلت أخشى إن تركته في الخارج أن يلعب عليه الصبيان فهم ماهرون في ابتداع وسائل الترفيه
والتسلية ولكن فليفرحوا وليلعبوا فأنا واثق أن الله سيحفظه
قال أحد الشباب اليافعين أنا سأهتم بأمره فلا تقلق فإن لدي أخت تستخدم كرسياً مثله شكرته ودخلت إلى المسجد محمولاً على كرسي والمصلون ينظرون إلي ويتفحصونني فغمرني شعور متضارب في تلك اللحظة شعرت بالحاجة إلى الضحك فقد شعرت وكأنني عريس في زفة ! و في قرارة نفسي انتابني شعور بالأسى والألم .....ولكن على كل حال لم تدم الفرحة طويلاً فقد تم وضعي في زاوية المسننين والمرضى وذوي الإعاقات في آخر المسجد ....
نلتقي إن شاء الله
تعليق