. .
إن الآيات التي تؤكد أن القلب موطن أقوى القيم والمبادئ والمشاعر التي يعيش بها الإنسان ويعيش عليها كثيرة ,
فلا عجب أن يعطي الله سبحانه وتعالى القلب أهم مماننسبه للعقل من صفات وهي الفهم والإدراك والوعي ,,
فيقول : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب ٍ أقفالها } ..-محمد :24- ولم يقل على عقول ٍ أقفالها ,
وقوله تعالى : [ صرف الله قلوبهم بأنهم قوم ٌ لايفقهون ] .. ولم يقل صرف عقولهم ,
أما في قوله تعالى :[ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها ] .. فيتأكد دور العقل هنا بمعنى التفكير والتأمل والوعي ..
وإذا عدنا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه " استفتِ قلبك , واستفت نفسك : البرُّ ما أطمأنت إليه النفس ,
والإثم ماحاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " ..
وجدنا أنه يجعل من القلب " دليل" الحقيقة و" شعاع" المعرفة ,
ويجعل من مشاعر الإنسان وليس حواسه انطلاق رؤية " البصيرة" فكان قوله تعالى :[ فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ]
ومن هنا كان القلب مصدر تقوى الإنسان وليس عقله ,
لأن خاصة العقل قد أصبحت شيئاً واحداً من مهام القلب ,
فإذا كان العقل يقوم بمهمة القدرة على " التمييز "
فإن القلب الذي يختار الأجمل والأصح والأحق , واختيار القلب العامر بالإيمان فيه أغلب الأحوال الصواب لأنه يرى بالبصيرة ,
واستفتاء العامر بالتقوى يؤدي إلى الحق الصحيح الصريح الذي لايؤدي إلى الخلاف مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ..
والإسلام دين الفطرة , لهذا خلق الله بيننا أناساً يرون أبعد مما تراه أبصارهم , ويشعرون بأبعد مما تدركه حواسهم وتلك "فراسة المؤمن "
التي حذّر منها الرسول صلى الله عليه وسلم الذين لايفقهون وقال : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله " -رواه الترمذي-
الآيات التي ذكرت " العقل " في القرآن الكريم كثيرة ولكنها في مجملها تذكرهبمعنى الدعوة للتأمل والتفكير والعلم والإدراك ..
مثل قوله تعالى : [ قد بيّنا لكم الأيات لعلكم تعقلون]
وقوله تعالى :[ إن في ذلك لأيات لقومٍ يعقلون ]
وقوله تعالى :[وللدار الآخرة خيرٌ للذين يتقون أفلا تعقلون ]
وفي معان ٍ أخرى يرتبط العقل بالعلم , والعلم وعي يقود إلى تعميق الإيمان مثلما نجد في قوله تعالى :[وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون]
وقد اختلف العلماء في ماهية العقل وموضعه بهذه المعاني فقيل محله الدماغ وهو قول أبي حنيفة . ويرىآخرون أنه في القلب كما رُوي عن الشافعي ..
بدليل قوله تعالى :[فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها ]
وقوله تعالى :[ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ]
وقلب هنا بمعنى عقل , وقد آثر بعض أهل المعرفة الجمع بين الرأيين فقالوا :
( العقل جوهر مضيء خلقه الله في الدماغ وجعل نوره في القلب يدرك به المعلومات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة )
ويضيف آخرون إلى هذا المعنى أن العقل : ( نور وضعه الله في القلب كالنور في العين وهو يزيد وينقص , ويذهب ويعود ,
وكما يدرك بالبصر شواهد الأمور كذلك يدرك بنور القلب المحجوب والمستور , وعمى القلب كعمى البصر )
وذلك مستمد من قوله تعالى : [ فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ]
وفي هذا الإطار جاءت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تتحدث عن العقل على أنه "بصيرة " القلب أو " شعاع "يسلط ضوءه على
ماخفي على الحواس لمسه , وعلى العقل الذي في الدماغ إدراكه ..
ولكن هناك أمور لايمكن الشعور بها إلا بقلب ٍ مطمئن بالإيمان , قلب تقود فيه " البصيرة " مسيرة " البصر "..
فإذا كان العقل بمعنى البصيرة وعمل الناس بهدي بصائرهم لا أبصارهم لكملت لهم سعادة الدنيا والآخرة ولعرفوا حقيقة الأشياء
لاكما تبدو لهم في "مظهرها" , ولكن كما تبدو في "جوهرها" ..
ولما اغتر أحدهم بما هو زائل من نعيم الدنيا ,
ولهان مايتقاتل عليه الناس من سلطان أو جاه أو مال ,
ولآثروا "متع الشعور " على "متع الحواس " وذاقوا "حلاوة الإيمان" في أفضل الأعمال التي يهدي إليا العقل ,
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "قلت يارسول الله بمَ يتفاضل الناس في الدنيا ؟ قال :
بالعقل . قلت : وفي الآخرة ؟ قال :بالعقل . قلت :إنما يجزون بأعمالهم , فقال عليه الصلاة والسلام :
ياعائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم عز وجل من عقل ؟ بقدر مااعطوا من العقل كانت أعمالهم وبقدر ماعملوا يجزون ".
وعن سعيد بن المسيب أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة دخلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا :
"يارسول الله من اعلم الناس ؟ فقال : العاقل , قالوا : فمن أفضل الناس ؟ قال : العاقل .
قالوا: فمن اعبد الناس ؟ قال : العاقل " ..
ويقول عليه الصلاة والسلام : "إنما يرتفع العباد غداً في الدرجات الزلفى من ربهم على قدر عقولهم " .. ..
وبالعقل يتم الإيمان, لأن الإيمان يهدي إلى الحق , ومعرفة الحق تقود للعمل به لهذا يقول عليه الصلاة والسلام :
" ماتمّ إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله "
تعليق